المراد بغريب الحديث: الألفاظ اللغوية البعيدة المعنى والغامضة التي تحتاج إلى شرح وإيضاح، وعلم غريب الحديث فن قائم بذاته ألفت فيه مؤلفات عديدة.
وأول من جمع في هذا الفن أبو عبيدة معمر بن المثني (110 - 209ه ـ ) ، فجمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتيباً صغيراً، ولم تكن قلته لجهله بغيره من غريب الحديث.
وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما أن كل من بدأ في فن لم يسبق إليه فإنه يكون قليلاً ثم يكبر، والثاني أن الناس يومئذ كان عندهم معرفة بلغة العرب، ولم يكن الجهل باللغة قد عم كما حصل في العصور المتأخرة.
ثم جمع أبو الحسن النضر بن شميل المازني (132 ـ 203ه ـ ) كتاباً أكبر من كتاب أبي عبيدة بسط فيه القول على صغر حجمه.
ثم جمع عبد الملك بن قريب الأصمعي المشهور (122 ـ 216ه ـ ) كتاباً أحسن فيه وأجاد، وكان كتابه أكبر حجماً ممن سبقه.
وكذلك فعل محمد ابن المستنيرالمعروف بقطرب (209ه ـ ) وغيره من الأئمة الذين جمعوا أحاديث وتكلموا على لغتها ومعناها في أوراق ذوات عدد، ولم يكد أحدهم ينفرد عن الآخر بكثير من الأحاديث.
واستمر الحال إلى زمن أبي عبيد القاسم بن سلام (157- 224ه ـ ) وكان من كبار علماء الحديث والأدب والفقه، فجمع كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار، والذي أفني فيه عمره حيث جمعه في أربعين سنة، وهو كتاب حافل بالأحاديث والآثار الكثيرة المعاني، اللطيفة الفوائد، وكان يظن رحمه الله على كثرة تعبه أنه أتى على معظم الغريب.
وبقي كتابه معتمد الناس إلى عصر أبي محمد عبد الله بن مسلم قتيبة الدينوري (213 ـ 276ه ـ ) فصنف كتابه المشهور في غريب الحديث، ولم يودعه شيئاً من كتاب أبي عبيد إلا ما دعت إليه الحاجة من زيادة شرح وبيان، أو استدراك أو اعتراض، فجاء مثل كتاب أبي عبيد أو أكثر منه، وقال في مقدمته: أرجو أن لا يكون بقي بعد هذين الكتابين من غريب الحديث ما يكون لأحد فيه مقال.
وكان في زمان ابن قتبية الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربي الحافظ فجمع كتاباً كبيراً في خمس مجلدات بسط القول فيه، واستقصى الأحاديث عن طريق أسانيدها، وأطاله بذكر متونها، فطال كتابه وتُرِك وهجر، وإن كان كثير الفوائد، وقد توفى ببغداد سنة (285ه ـ ) .
ثم أكثرَ الناسُ من التصانيف في هذا الفن كالمبرد اللغوي المشهور، وثعلب ومحمد بن القاسم الأنبارى وسلمة بن عاصم النحوي وعبد الملك بن حبيب المالكي ومحمد بن حبيب البغدادي، وغيرهم ممن لا يحصون من أئمة اللغة والنحو والفقه والحديث.
واستمر الحال إلى عهد الإمام الخطابي البستي المتوفى سنة (378ه ـ ) فألف كتابه المشهور في غريب الحديث، وسلك فيه نهج أبي عبيد وابن قتيبة، وصرف عنايته فيه إلى جمع ما لا يوجد في كتابيهما، فاجتمع له من ذلك ما يداني كتاب أبي عبيد وكتاب ابن قتيبة.
فكانت هذه الكتب الثلاثة في غريب الحديث والأثر أمهات الكتب، وهي الدائرة بين أيدي الناس وعليها يعول علماء الأمصار، غير أن هذه الكتب الثلاثة وغيرها لم يكن فيها كتاب مرتب ترتيباً يستطيع الإنسان أن يأخذ حاجته منه بسرعة، بل يجد الباحث فيها كل تعب وعناء حتى يصل إلى الحديث.
السائر في غريب القرآن والحديث:
وبقي الحال كذلك إلى أن جاء أبو عبيد أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الباشاني الهروي، المتوفى سنة (401 ه ـ ) ، وهو من معاصري الخطابي فألف كتابه السائر، جمع فيه بين غريب القرآن والحديث.
ورتبه ترتيباً لم يسبق إليه، فاستخرج الكلمات اللغوية الغريبة من أماكنها، وأثبتها في حروفها مرتبًا لها على حروف المعجم، وحذف الأسانيد وجمع فيه من غريب الحديث ما في كتب من تقدمه، وزاد عليه، فجاء كتاباً حافلاً جامعاً، إلا أنه جاء الحديث مفرقاً في حروف كلماته.
وقد ذاع صيت هذا الكتاب بين الناس واتخذوه عمدة في الغريب، واقتفى أثره كثيرون واستدرك ما فاته آخرون.
الفائق في غريب الحديث:
ثم جاء الإمام أبوالقاسم محمود بن عمر الزمخشري جار الله، المتوفى سنة (538ه ـ ) ، فألف كتابه الفائق في غريب الحديث، وهو كتاب قيم جامع، رتبه على وضع اختاره على حروف المعجم، ولكن العثور على معرفة الغريب منه فيه مشقة، وذلك لأنه يجيء بشرح الكلمات الغربية في حرف واحد فترد الكلمة في غير حروفها، فلذلك كان كتاب الهروي أقرب منه تناولاً، وإن كانت كلمات الحديث متفرقة في حروفها.
وقد ألف أبو بكر محمد بن أبي بكر المديني الأصفهاني المتوفى (581ه ـ ) كتاباً جمع فيه على طريقة الهروي ما فاته من غريب القرآن والحديث، ورتبه كما رتبه الهروي ثم قال: واعلم أنه سيبقى بعد كتابي أشياء لم تقع لي ولا وقفت عليها لأن كلام العرب لم ينحصر.
والإمام أبو الفرج الحافظ عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي صنف كتابا في غريب الحديث نهج فيه طريق الهروي مجرَّداً عن غريب القرآن، يغلب عليه الوعظ، قال فيه: قد فاتهم أشياء فرأيت أن أبذل الوسع في جمع الغريب وأرجو أن لا يشذ عني مهم من ذلك، وأن يغني كتابي عن جميع ما صنف في ذلك.
النهاية في غريب الحديث والأثر:
ثم جاء مجد الدين مبارك بن محمد بن محمد الشيباني المعروف بابن الأثير فألف كتابه النهاية في غريب الحديث والأثر، وقال في مقدمته: " ولقد تتبعت كتاب ابن الجوزي فرأيته مختصراً من كتاب الهروي منتزعاً من أبوابه شيئاً فشيئاً، ووضعا فوضعا، فلم يكن إلا جزءًا يسيرًا من أجزاء كثيرة.
وأما أبو موسى الأصفهاني رحمه الله فإنه لم يذكر في كتابه مما ذكره الهروي إلا كلمة اضطر إلى ذكرها إما لخلل فيها أو زيادة في شرحها أو وجه آخر في معناها، ومع ذلك فإن كتابه يضاهي كتاب الهروي كما سبق لأن وضع كتابه استدراك لما فات الهروي.
ولما وقفت على كتابه الذي جعله مكملاً لكتاب الهروي ومتمما وهو في غاية الحسن والكمال، وكان الإنسان إذا أراد كلمة غريبة يحتاج إلى أن يتطلبها في أحد الكتابين فإن وجدها فيه وإلا طلبها من الكتاب الآخر.
وهما كتابان كبيران ذوا مجلدات عدة ولا خفاء بما في ذلك من الكلفة، فرأيت أن اجمع ما فيهما، من غريب الحديث مجرَّدًا من غريب القرآن، وأضيف كل كلمة إلى أختها في بابها تسهيلاً لكلفة الطلب، إلى أن قال: كما يكون قد فاتني من الكلمات الغريبة التي تشتمل عليها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم رضي الله عنهم، جعلها الله سبحانه ذخيرة لغيري يظهرها على يده ليذكر بها، ولقد صدق القائل: كم ترك الأول للآخر.
فحيث حقق الله النية في ذلك سلكت طريق الكتابين في الترتيب الذي اشتملا عليه، والوضع الذي حوياه من التقفية على حروف المعجم بالتزام الحرف الأول والثاني من كل كلمة وإتباعها بالحرف الثالث الخ … إلى أن قال: ومع هذا فإن المصيب في القول قليل، والفعل قليل بل عديم، ومن الذي يأمن الغلط والسهو والزلل نسأل الله العصمة والتوفيق ".
ويبقى كتاب النهاية هو النهاية في هذا الفن، وهو أكبر مرجع في غريب الحديث.
المصدر: موقع إسلام ويب